صورة وخبر

مبدعون على ضفاف المئوية: عبدالله العكشة.. عرار الجنوب

أخبار الأردن-نبراس نيوز- كتب أحمد الطراونة.. في سياق احتفال الأردنيين بمرور مئة عام على تأسيس أولى البنى الإدارية والسياسية والثقافية في مشروع دولتهم الحديثة، نحتفي برموز الإبداع والوعي الذين أضاءوا بقناديلهم دروب المسيرة، وأسهموا بنتاجاتهم في صياغة الوجدان، ودوّنوا بإبداعهم على صفحة هذا الوطن سيرته وسرديته.

وتقدم هذه الزاوية على مدار العام تعريفاً بشخصيات إبداعية تركت منجزاتها بصمات واضحة في التاريخ الحديث.

عرار الجنوب، تعلم وعلّم، تشرّد ونفي، اقترب من السياسة وابتعد، رجل قانون تعلم على ذاته وبقي صخرة صلدة تتكسر عليها كل محاولات تهميشه او اسقاطه من الحسابات، فكان قوميا عروبيا بالفطرة.

صوت الثورات، حين أنشد للكرك وجعلها تفيق من سباتها لتنهض في وجه الصلف الطوراني، ثم عاد ليقارع هذه الزمرة ويؤكد لها أن جيوش العرب وثورتهم ستأتيهم من حيث يعرفون، وأنهم سيكونون أثرا بعد عين.

العكشة الذي وُلد في الكرك عام 1880، درس في مدرسة الروم الأرثوذكس فتميز بقوة الشخصية، والنباهة والموهبة الأدبية، وتعلق قلبه بالشعر منذ الصغر، فأخذه عنوة إلى السياسة، والتي أخذته هي الأخرى للقانون.. تمرد على السائد، وتمسك بالبساطة والزهد، وناصر الضعفاء والمهمشين، وبقي مدافعا عن مبادئه، فانتشرت قصائده ومآثره بين الناس.

أراد أن يلتحق بمدرسة القدس، لكن الظروف منعته من ذلك، فقرر التعلم على نفسه، وعندما سمع شابا مقدسيا يتحدث الفرنسية مع الأجانب في الكرك، أسرع إلى راعي الكنيسة الإيطالي، الذي يتقن الفرنسية والإنجليزية بالإضافة للإيطالية، وطلب منه بإلحاح أن يعلمه هذه اللغات، فعلمه مبادئها، وتمكن من إتقانها محادثة وكتابة، وكان يستخدمها خلال مرافقته للسياح في البترا والكرك، كدليل وحارس، حتى عودتهم إلى القدس.

درس مع صديقه عودة القسوس المجلة العدلية وكتب القانون، ليُعرف بعد ذلك قانونيا صاحب وجهة نظر، ويمارس نضاله ضد ممارسات الحكومة التركية، فكتب رسالة إلى الصدر الأعظم في أسطنبول شرح فيها فساد الحكام في الكرك، وطالب فيها برفع هذا الظلم، فاستجابت الحكومة وتم رفع السخرة عن الكرك، ثم ألقي القبض عليه مع مجموعة من وجهاء الطائفة المسيحية في الكرك وتم نفيهم إلى منطقة قوزان في تركيا، ولم يتمكنوا من العودة إلى الوطن، إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

وفي زمن الحكومة العربية الأولى في دمشق، عُين عبدالله العكشة عضواً في محكمة الكرك، غير أن هذه الفترة لم تدم طويلاً، فبعد سقوط تلك الحكومة وقيام حكومة محلية في الكرك، انتُخب عضواً في المجلس العالي في حكومة الكرك، وقد واكب قدوم الأمير عبدالله بن الحسين إلى معان ثم إلى عمان ليؤسس إمارة شرق الأردن.

ويعد العكشة من رجالات مرحلة التأسيس، فقد عُين في بدايات تلك المرحلة عضواً في محكمة بداية إربد، وتدل الوظائف التي تولاها على تقدير لخبرته القانونية، رغم عدم تحصله على مؤهل علمي، ومع ذلك حافظ على مبادئه، ورفضه لظلم الاستعمار الغربي للبلاد العربية، وخسر في سبيل ذلك وظيفته في المحكمة، عندما رفض تسليم مجاهدين سوريين التجأوا إلى الأردن، إلى الفرنسيين، بعد أن تبين له أنهم مناضلون شرفاء، وقاوم إلحاح المعتمد البريطاني، فتم الاستغناء عنه، فلم يفت ذلك في عضده، وبقي على رأيه وموقفه.

بعد خروجه من محكمة اربد، عاد العكشة إلى الكرك، وبدأ العمل في المحاماة، مدافعاً عن أصحاب الحق، فكان يرفض الدفاع عن أي شخص ليس بصاحب حق، ثم عُين عضواً في لجنة وضع قانون مجلس النواب، في بداية مرحلة التأسيس في عام 1923، ولم يتفق رأيه مع رأي رئيس اللجنة إبراهيم هاشم، فحُلّت اللجنة وأعيد تشكيلها من دونه.

وخاض الانتخابات النيابية أكثر من ثلاث مرات، لكنه لم يتمكن من دخول المجلس، وكتب عن هذه التجربة قصائد توثق الكيفية التي مارس بها الناس الانتخابات، وكيفية التآمر عليه وترسيبه.

نبغ العكشة في الشعر منذ نعومة أظفاره، وقدم في مناسبات عدّة نماذج شعرية كان لها الأثر البليغ في تغيير وجهة النظر العامة، خصوصاً أنه كان قريبا من قلوب الناس يحمل همومهم ويدافع عن قضاياهم، وكان واضحا في شعره الذي أيقظ البركان الأردني في الهيّة، ولم يكن للمنفى أن يبعده عن هواه ومعشوقته، فقد نظم في عام 1918 قصيدة في منفاه يظهر فيها حجم شوقه للكرك.

كما نظم قصيدة في منفاه يتحسر فيها على غيابه عن مدينته وأحبته وينعى رفيقه قدر المجالي بعدما وصل إليه خبر اغتيال قدر على أيدي العثمانيين.

في مقدمة ديوانه الوحيد «راعي البويضا»، الذي جُمع من بعض القصائد المتناقلة شفاهيا وبعض مخطوطاته؛ أكد ابنه د.فريد العكشة، أن والده أزعجه ما رأته عيناه من ظلم واضطهاد وابتزاز للمواطنين وعدم الاهتمام بأمورهم في العهد العثماني.

فكتب ذات مرة رسالة بلا توقيع، غيّر فيها نوعية خطّه إلى الصدر الأعظم في اسطنبول، شكا فيها المتصرف والحكام المتنفذين في الكرك. وكتب في آخرها العبارة التالية: «تحكمنا دولة قرود ولا الدولة العثمانية الحالية».

وبعد أشهر استدعاه المتصرف، وسأله في ما إذا كان هو كاتب الرسالة فأنكر، لكن المتصرف أصر على اعتقاده وقرر نفي العكشة إلى الطفيلة.

وفي عام 1919 نظم عبدالله العكشة قصيدة طويلة وصف فيها حالة العرب المزرية نتيجة الإجحاف التركي بحق العرب, وخصوصاً في سنوات الحرب العالمية الأولى، وعرج فيها على الثورة العربية الكبري مادحاً إياها وشامتاً بهزيمة الأتراك على أيدي الحلفاء.

وتطرقت قصائده إلى وصف الانتخابات البرلمانية الثلاثة الأولى في تاريخ الأردن، كما نظم قصائد حول قضية فلسطين، صور فيها أن الصهاينة جاءوا بثوب الضيوف و«وطرّوا المعازيب».

ومن أواخر قصائده في عام 1955, قصيدة عارض فيها زيارة وزير الخارجية التركي آنذاك جلال بايار لحث الأردن على الانضمام إلى حلف بغداد.

زاول الشاعر عبدالله العكشة مهنة المحاماة الى أن تقاعد سنة 1952، وبعدها اتجه إلى الزراعة ومطالعة الكتب وكتابة الشعر، إلى أن توفاه الله بتاريخ 7 شباط 1956.

(الرأي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى