أخبار الأردن-نبراس نيوز- بقلم أ. د. مأمون عكروش.. منذ بداية الألفية الجديدة عندما كنت على مقاعد الدراسة لمرحلة الدكتوراة في المملكة المتحدة تولّد لدي قناعات بأن ما يجري في العالم من تطورات وتغييرات إقتصادية وإجتماعية وكافة التكتلات والتحالفات الإستراتيجية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية يوجد فيها “أمر غير مألوف” مما يخالف ثوابت وقوانين الطبيعة التي أثبتت نجاعتها عبر قرون خلت. نعم وألف نعم للعلم والتكنولوجيا والتقدم العلمي في مُختلف مناحي الحياة ولكن لا يمكن تجاوز القومية والمجتمع والثقافة والأمن القومي ضمن حدود الدولة الواحدة مهما بلغت درجة وحدّة التحالفات الإقليمية والدولية. كما أثبتت التجربة أن الطرق التقليدية في إدارة الأزمات والمخاطر التي تنبثق من رحم التخطيط الإستراتيجي الفعّال، على مستوى الدولة والمؤسسات، هي صمّام الأمان للدولة الواعية، ومما يزيد من إيجابية هذا التخطيط وعي شعب الدولة. لقد كان هناك حالة ترقب وإنتظار في كافة أصقاع المعمورة حول ماهية المرحلة القادمة نظراً للتقدم التكنولوجي الهائل وغير المسبوق في كافة وسائل الإتصال وتكنولوجيا المعلومات وإستخدامها في كافة مناحي الحياة.
لقد توقع الكثيرون حدوث حرب عالمية ثالثة لإعادة التوازن الإستراتيجي العالمي للقوى العظمى وتوزيع الموارد والأسواق والثروات والسيطرة مرّة أخرى على مناطق التقدم والأسواق النامية والمحتملة بإستخدام الأدوات التقليدية مثل المؤسسات المالية والنقدية والإتفاقيات طويلة المدى بين الدول والتحكم بمختلف وسائل الإنتاج والتقدم العلمي الهائل في مجال الاتصال وتنكولوجيا المعلومات. من وجهة نظري، لقد نجح التقدم التكنولوجي الهائل في مجال الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات من السيطرة على العالم وإحداث تغيير مهم جداً في المجتمعات والى حدِ ما في تفكيك شيفرة بعض القوميات والأعراق ولكن لم يكن هناك نجاح ملموس في إحداث تغيير ثقافي جذري في العديد من دول العالم، لا بل إن العديد من الدول إزدادت حدّة القومية لديها نظراً لإنعدام الشعور بالأمان العالمي. وتجدر الإشارة الى أن إنفتاح شعوب ودول العالم على بعضها البعض ومحاولة خلق ما يسمى المواطن العالمي (Global Citizen) نتيجة تقدم وسائل الاتصال لا يعني تخليّ هذه الشعوب عن قوميّتها وثقافتها حتى لو تشابهت العديد من السلوكيات الانسانية نتيجة لطبيعة الانسان وتكوينه.
أكاد أجزم انه على الرغم من التقدم التكنولوجي الهائل والرفاهية في العديد من الدول وحلقات العصف الذهني في معاهد التفكير الاستراتيجي المرموقة، فإن الطبيعة الإنسانية ستسود وثوابت الكون ستأخذ مكانها الطبيعي فيما يجري في العالم، وخصوصاً بعض المُسلّمات في طبيعة الحياة والموت. لذلك، فإن العالم كان بطريقةً أو بأخرى ينتظر “الصدمة” سواء أكانت بتخطيط مٌسبق أم لا لتكون هي “المنصّة”، وبلغة السياسة المبرر الإستراتيجي”، من أجل التدخل وإجراء تغيير جذري شامل والقيام بإستدارة إستراتيجية على مستوى الدول والعودة الى الثوابت التي توجّه سلوك كل دولة وفقاً لمصالحها القومية مع الأخذ بنظر الإعتبار المصالح الإستراتيجية المشتركة مع الدول الأخرى. لقد إستفاق العالم على وقع صدمة فايروس الكورونا (COVID19)، منصّة التغيير القادمة لا محاله!
أعتقد أن العلامة الفاصلة في هذا القرن لغاية تاريخه هي إنتشار فايروس الكورونا وحالة الرعب العالمي في كافة أصقاع المعمورة وعلى كافة الدول والمستويات. بغض النظر عن وجود “نظرية المؤامرة” (Conspiracy Theory) من عدمها ومن الرابح والخاسر، السؤال الأهم هو: هل سنرى عالم جديد ما بعد الكورونا؟ من وجهة نظري الشخصية نعم، سيكون هناك عالم جديد وسوف يتبلور الى نظام عالمي جديد يشهد فيه العالم تغييرات غير مسبوقة وقد تكون مفاجئة للكثير بما في ذلك العودة الى العديد من النظريات والممارسات التقليدية (Classical Theories) في العديد من مناحي الحياة.
بناءً على قرائتي المتواضعة لأحدات العقدين الماضيين وتحليلي الشخصي لصدمة الكورونا العالمية، أعتقد ان العالم الجديد لمرحلة ما بعد الكورونا سيكون على النحو التالي:
* تجذير مفهوم الدولة القُطرية الواحدة وفقاً للنظريات السياسية والإقتصادية التقليدية أو على الاقل النيوتقليدية (New-classical) التي تُعنى بالأمن القومي الشمولي من جميع النواحي بالتشارك مع تحالفات جديدة.
* تجذير مفهوم الأمن القومي الإقتصادي والإجتماعي بالإعتماد على قطاعات الصناعة والإنتاج والزراعة والإكتفاء الذاتي أكثر من التركيز على قطاعات الإقتصاد الخدمية التي كانت محور التنمية في العديد من الدول منذ عقد التسعينات من القرن الماضي (أعلم بأن هناك نظرية الموارد والميزة النسبية لكل دولة ولكن هذا قد يتغيّر نسبياً).
* تغيّر جوهري في التحالفات الدولية والعلاقات بين الدول وفقاً للمصالح الثنائية المتبادلة.
* تغيّر شامل في الأنظمة والقوانين والإجراءات الصحية والطبية والدوائية على مستوى الدول والعالم وهذا سيخلق فرص هائلة لعدة قطاعات أعمال وحتى حكومات.
* تغيّر جوهري لمفهوم الأمن القومي بحيث يشمل الأنظمة الصحية والوقائية وإعتماد نماذج جديدة للمحاكاة على أرض الواقع وتوقع أزمات لم يتم التفكير بها مسبقاً.
* تجذير الدور الإستراتيجي لمراكز إدارة الأزمات والقدرات المتعلقة بها للتنبؤ بالأزمات سواء أكانت تقليدية أم غير تقليدية.
* تعزيز دور العلم والعلماء والبحث العلمي المٌتعلق بالإنسان الذي تم إعتباره ثانوياً لبُرهةً من الزمن لصالح أمور أخرى إهتمت بها العديد من الدول في السابق كالرياضة والفن وتكنولوجيا الاتصالات (من حيث المال والشهرة والإنتشار) والثقافةعلى سبيل المثال.
* تغيّر في ترتيب ومراكز دول العالم الأول، وخصوصاً الصحية منها، التي كانت بمثابة “مُسلّمات” لصالح دول أخرى قد تكون دول ناشئة او نامية. قد يشمل إعادة هيكلة الأنظمة الصحية في العديد من دول العالم وخاصةً تلك التي لم تستيطع التعامل مع أزمة الكورونا وفقاً لمعايير تقدم صحي جديدة يجري العمل على صياغتها.
* تغيّر ترتيب عدة دول من حيث قوتها الإقتصادية والعلمية والإجتماعية حتى لو كان لها تفوّق عسكري وأمني وتقدم تكنولوجي هائل.
* تراجع إقتصادي ضخم على مستوى العالم تتأثربه عدة دول أكثر من أخرى وقد يقود لكساد عالمي كبير.
* صياغة أنظمة مالية ومصرفية جديدة على المستوى الدولي وسيكون للتكنولوجيا المتقدمة الدور الحاسم فيها.
* إرتفاع مديونية العديد من دول العالم، وخصوصاً الدول النامية والعالم الثالث) نظراً لتخصيص موازنات ضخمة للتعامل مع التداعيات الإقتصادية الكبيرة لتوقف عجلة الإنتاج في العديد القطاعات الإقتصادية والإنتاجية في الاشهر الماضية ولبعض الاشهر القادمة.
* ركود كبير في قطاع السياحة العالمية والاقليمية، وحتى على مستوى بعض الدول، نظراً لتوقف عجلة العمل فيه لفترة لا بأس بها نظراً لحالة الذُعر من الفايروس.
* إعادة النظر في منظومة القيم الإجتماعية والثقافية والإنسانية بحيث تكون غالبية الشعوب أقرب الى الله سبحانه وتعالى. فما حدث مؤشر على أنه مهما تقدّم العلم والمعرفة فإن الإنسان يزال غير قادر على تفكيك الجزء اليسير من حكمة وقدرة الخالق عزّ وجل.
* العودة الى الإنسان “الطبيعي” الذي يهتم بأخيه الإنسان ضمن منظومة قانون الحياة والطبيعة بغض النظر عن التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي نشهده هذه الايام. فصدمة فايروس الكورونا هي جرس إنذار للإنسان بأن الحياة المادية والفردية المٌطلقة هي مفاهيم لا تُغني بأي حال من الأحوال بأن يهتم الإنسان بأخيه الإنسان وبأن الله عزّ وجل هو ملاذنا الآمن.
* إعادة تشكيل وتنظيم منظومة العمل الاجتماعي والتطوعي وبث روح الإنسانية التي كادت أن تختفي من حياتنا نظراً لإنشغالنا بأمور حياتية وصراعات جانبية بعيدة عن قيم المحبة والسلام.
* إعادة النظر بشكل جذري في فلسفة وأنظمة وإستراتيجيات وطرائق التعليم المدرسي والجامعي ضمن منظومة تخطيط إستراتيجي شمولي يرتكز على مفهوم إستدامة التعليم في ظل الأزمات سواء أكانت حروب أم أوبئة أم كوارث طبيعية.
* قد يكون هناك إتحاد أوروبي جديد أو يُمكن ان تعود أوروبا التقليدية التي نعرفها في سبعينيات القرن الماضي بالترامن من موجة تحالفات وتكتلات ثنائية أو ثلاثية الشكل والمضمون وفقاً لمصالح كل دولة.
* سيكون هناك “الصين” الجديدة في شبه القارة الهندية وأفريقيا لتكونان محطة الإقتصاد العالمي الجديد.
* سيكون هناك عملات رقمية جديدة الى جانب العملات الورقية الحالية بتغطيات وضمانات ليس شرطاً أن يكون الذهب من بينها-النظام المالي العالمي الجديد.
* ستكون التكنولوجيا المتقدمة وتحديداً تكنولوجيا الذكاء الإصطناعي (Artificial Intelligence-AI) وإنترنت الأشياء (The Internet of Things-IoT) وتحليل البيانات الضخمة (Big Data Analysis) الدور الحاسم في تشكيل العالم الجديد ولا أستبعد إستخدام هذه الطرق المتقدمة في محاكاة العقل البشري وتوجيهه بحلول العام 2030.
أقوى مؤشرات العالم الجديد بدأت بتخصيص الصين والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ودول أخرى لمئات المليارات وعدة تريلونات “لإنعاش” الإقتصاد العالمي والخروج من حالة توقف الإنتاج القسري الذي يعيشه العالم حالياً.
وتجدر الإشارة أن هذه التغييرات ستأخذ وقت لإجراء التحولات الإقتصادية والإجتماعية والمالية والتشريعية المطلوبة للتكيّف معها. لذلك، الإستعداد لما هو قادم أفضل سيناريو للتكيّف مع العالم الجديد.