سفير دولة الفاتيكان يكتب: السلام هدف مشترك

أخبار الاردن-نبراس نيوز- كتب المطران جيوفاني دال توزو- يقوم جلالة الملك عبد الله الثاني هذه الأيام بأول زيارة رسمية له للبابا لاون الرابع عشر. تُؤكد هذه الزيارة على علاقة الاحترام المتبادل والتعاون بين المملكة الأردنية الهاشمية والكرسي الرسولي، الذي يمثل 1.3 مليار كاثوليكي ويرتبط بعلاقات دبلوماسية مع 184 دولة حول العالم. للعلاقة مع الأردن جذور راسخة. كان القديس بولس السادس أول بابا يستقل طائرة: فقد أقلته رحلته الأولى في كانون الثاني 1964 من روما إلى عمان، حيث بدأ حجه إلى الأراضي المقدسة. بعده، بدأ القديس يوحنا بولس الثاني، وبندكتس السادس عشر، والبابا فرنسيس زياراتهم إلى الأراضي المقدسة من الأردن. كما التقى ملوك الأردن، من جلالة الملك حسين إلى الملك عبد الله الثاني، بالباباوات في روما. وإلى جانب هذه العلاقات رفيعة المستوى، يستمر التعاون الدبلوماسي والثقافي. أودّ على الأقل أن أذكر معرض “الأردن، فجر المسيحية”، الذي أقيم في الفاتيكان في شباط من هذا العام.
وكان أول معرض لدولة عربية في الفاتيكان. ولماذا هذا التعاون الوثيق، علماً بأن الكرسي الرسولي لا يملك قوة اقتصادية أو عسكرية مثل بقية أعضاء المجتمع الدولي؟.
السبب الأول هو التزام الكرسي الرسولي بالسعي إلى السلام وتعزيزه. وهنا، يُعدّ التعاون مع الأردن أمرًا بالغ الأهمية، لأن المملكة تُعدّ عامل استقرار في الشرق الأوسط بأكمله. وجهود المملكة الأردنية الهاشمية لتعزيز الوئام، ليس فقط داخل حدودها، بل في جميع أنحاء المنطقة معروفة جيدًا. لاستقرار هذا البلد انعكاساتٌ على منطقة المشرق العربي، من أجل مسار مشترك نحو السلام والاستقرار. ويتجلى ذلك بوضوح في أحداث العامين الماضيين من الحرب في غزة.
فقد وجد الكرسي الرسولي والأردن نفسيهما متفقين في الدعوة، إلى جانب إطلاق سراح الرهائن والسجناء، إلى إنهاء الحرب والالتزام العالمي بتنفيذ قرار الأمم المتحدة الداعي إلى إنشاء دولتين، وبالتالي دولة فلسطينية أيضًا. علاوة على ذلك، كان الأردن في طليعة تقديم المساعدة الإنسانية لشعب غزة، وهي المساعدة التي طلبها الكرسي الرسولي بإلحاح لتخفيف معاناة الكثيرين.
في هذا السياق، لا يسعني أن أنسى التزام بطريرك القدس للاتين، الكاردينال بيتسابالا، الذي زار غزة في مناسبات عدة، بما في ذلك برفقة بطريرك القدس للروم الأرثوذكس، ثيوفيلوس الثالث، لتقديم المساعدات للسكان، وتذكير الجميع على مدار العامين الماضيين بضرورة وضع حدٍّ لهذا الألم. تعمل الكنيسة الكاثوليكية دائمًا على صون كرامة كل إنسان، بغض النظر عن عرقه أو دينه. علينا جميعًا أن ننظر إلى معاناة الآخرين بعيون إنسانية، أي بوعي أن الآخر إنسان مثلي. قد يكون من المفيد للجميع أن نتذكر قاعدة من الإنجيل نتفق عليها جميعًا: “كل ما تريدون أن يفعله الناس بكم، فافعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم”. لو التزمنا بهذه القاعدة، لتجنبنا معاناةً كثيرة.
السبب الثاني للعلاقة الوثيقة بين الكرسي الرسولي والمملكة الأردنية الهاشمية وهو الاهتمام بحماية المجتمعات المسيحية والحفاظ عليها وتعزيزها في المملكة وفي الشرق الأوسط بشكل عام. ويُعدّ الأردن بلدًا نموذجيًا في هذا الصدد، إذ يحترم حرية العبادة وحرية الضمير، ما يتيح للطوائف المسيحية ممارسة إيمانها، بل ويُقدّر إسهامها. وتطالب الكنيسة الكاثوليكية، بمختلف طقوسها ومؤسساتها، بمواصلة أداء رسالتها باستقلالية تامة، وتحديدًا بمواصلة تقديم خدماتها للمجتمع الأردني ككل. وأفكر في هذا الصدد، على سبيل المثال، في العدد الكبير من المدارس الكاثوليكية في البلاد، تلك المدارس التي يُقدّر مستوى تعليمها، والتي تخدم الأردنيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الثقافية أو الدينية. وتُعد المدارس، على وجه الخصوص، مجالًا بالغ الأهمية، لأنها تُشكّل مستقبل هذا البلد. وتهتم الكنيسة الكاثوليكية بتعزيز مستقبل إيجابي للمملكة الأردنية الهاشمية.
وخلال إقامتي في هذا البلد، أدهشني بشدة أن العديد من الشخصيات البارزة درسوا في مدارس كاثوليكية. إن هذه الشخصيات هي مثال ملموس على أن الكنيسة لا تعمل لصالح نفسها، بل لصالح المجتمعات التي توجد فيها.
أود أن أشير إلى جانب إيجابي آخر في هذا الصدد. فالأردن محظوظ بوجود شخصيات مسيحية في الساحة السياسية، تمثل مجتمعنا في الحكومة والبرلمان والمؤسسات. وهذا أيضًا عامل ملموس يُظهر أن المسيحيين ليسوا غرباء عن المجتمع الذي يعيشون فيه فحسب، بل يساعدونه ويساهمون في رفاهيته كمواطنين في المقام الأول. لذلك، أود أن أتطرق إلى مفهوم عزيز على العقيدة الاجتماعية للكنيسة: الخير العام. في تصورنا للمجتمع وعلاقاته، من المبادئ التي يجب أن تحكم العيش معًا السعي وراء الخير، حيث يجب أن يكون السعي وراء خير الفرد منسجمًا مع خير المجتمع ككل. أي أن الجميع مدعوون، في سعيهم وراء خيرهم الخاص، إلى السعي أيضًا وراء خير الجميع. هذا السعي وراء الخير، على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع أيضًا، هو ما يمكن أن يُساعد المجتمع على العيش في سلام ووئام، متجنبًا التوترات التي غالبًا ما تكون مجرد تعبير عن مصالح طرف واحد. ويثبت التاريخ أن مساهمة المسيحيين في حياة المملكة الأردنية الهاشمية كانت من أجل الخير العام. وأعتقد أن هذا هو المبدأ الذي يجب أن يرافقنا في المستقبل.
أخيرًا، الحوار بين الأديان. يعلم الكرسي الرسولي جيدًا أن الدين، للأسف، قد يُستخدم ليس للخير، بل للشر. عندما يُستخدم الدين كإيديولوجيا، وعندما تُطمس كرامة الإنسان باسم الدين، وعندما يُتطرف فيه لرؤية الآخر ليس كالأخ، بل كعدو، فإن هذا الدين المزعوم لا يخدم البشرية. بدلاً من ذلك، فإن الدين بطبيعته يريد أن يفتح لنا الطريق إلى الله، وهو إلهنؤمنأنه خير ويريد الخير للإنسان. الدين يريد أن يساعدنا في التآلف مع بعضنا، لا أن نكره بعضنا البعض. لديّ أمثلة كثيرة هنا في الأردن حيث لم يكن الدين عائقًا، بل عزز العلاقات داخل المجتمع.
إن المجتمع الذي يعرف كيف يوفق بين الاختلافات، رغم عدم تجانسه، هو مجتمع قوي.
مجتمع الأردن مجتمع متعدد المكونات العرقية والدينية، ولكنه متحد جوهريًا. يود الكرسي الرسولي، مع جميع تعبيرات الكنيسة الكاثوليكية، دعم علاقات قائمة على الاحترام والتعاون بين مختلف الأديان.
في خطابه أمام برلمان ستراسبورغ قبل بضعة أشهر، صرّح جلالة الملك عبد الله الثاني بأن الأردن يفخر بوجود موقع معمودية السيد المسيح على أرضه. ولذلك، فإنني على يقين بأن زيارة جلالته للبابا لاون ليست مجرد زيارة رسمية، بل هي زيارة تُرسّخ التعاون وتُؤكّد الأمل في أن يتمكن الأردن والكرسي الرسولي معًا من السعي نحو مستقبل يسوده السلام، للأردن وللشرق الأوسط بأكمله.
كاتب المقال سفير دولة الفاتيكان (سفير الكرسي الرسولي في الأردن)